فصل: تفسير الآيات (1- 4):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآيات (37- 41):

{فَأَمَّا مَنْ طَغى (37) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (39) وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (41)}
قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغى وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا} أي تجاوز الحد في العصيان. قيل: نزلت في النضر وابنه الحارث، وهي عامة في كل كافر آثر الحياة الدنيا على الآخرة.
وروى عن يحيى بن أبي كثير قال: من أتخذ من طعام واحد ثلاثة ألوان فقد طغى.
وروى جويبر عن الضحاك قال: قال حذيفة: أخوف ما أخاف على هذه الامة أن يؤثروا ما يرون على ما يعلمون. ويروى أنه وجد في الكتب: إن الله جل ثناؤه قال: لا يؤثر عبد لي دنياه على آخرته، إلا بثثت عليه همومه وضيعته، ثم لا أبالي في أيها هلك. {فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى} أي مأواه. والألف واللام بدل من الهاء. {وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ} أي حذر مقامه بين يدي ربه.
وقال الربيع: مقامه يوم الحساب. وكان قتادة يقول: إن لله عز وجل مقاما قد خافه المؤمنون.
وقال مجاهد: هو خوفه في الدنيا من الله عز وجل عند مواقعة الذنب فيقلع. نظيره: {وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ} [الرحمن: 46]. {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى} أي زجرها عن المعاصي والمحارم.
وقال سهل: ترك الهوى مفتاح الجنة، لقوله عز وجل: {وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى} قال عبد الله بن مسعود: أنتم في زمان يقود الحق الهوى، وسيأتي زمان يقود الهوى الحق فنعوذ بالله من ذلك الزمان. {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى} أي المنزل. والآيتان نزلتا في مصعب بن عمير وأخيه عامر بن عمير، فروى الضحاك عن ابن عباس قال: أما من طغى فهو أخ لمصعب بن عمير أسر يوم بدر، فأخذته الأنصار فقالوا: من أنت؟ قال: أنا أخو مصعب بن عمير، فلم يشدوه في الوثاق، وأكرموه وبيتوه عندهم، فلما أصبحوا حدثوا مصعب بن عمير حديثه، فقال: ما هو لي بأخ، شدوا أسيركم، فإن أمه أكثر أهل البطحاء حليا ومالا. فأوثقوه حتى بعثت أمه في فدائه. {وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ} فمصعب بن عمير، وقى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنفسه يوم أحد حين تفرق الناس عنه، حتى نفذت المشاقص في جوفه. وهي السهام، فلما راه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متشحطا في دمه قال: «عند الله أحتسبك وقال لأصحابه: لقد رأيته وعليه بردان ما تعرف قيمتهما وإن شراك نعليه من ذهب».
وقيل: إن مصعب ابن عمير قتل أخاه عامرا يوم بدر. وعن ابن عباس أيضا قال: نزلت هذه الآية في رجلين: أبي جهل بن هشام المخزومي ومصعب بن عمير العبدري.
وقال السدي: نزلت هذه الآية وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ في أبي بكر الصديق رضي الله عنه. وذلك أن أبا بكر كان له غلام يأتيه بطعام، وكان يسأله من أين أتيت بهذا، فأتاه يوما بطعام فلم يسأل وأكله، فقال له غلامه: لم لا تسألني اليوم؟ فقال: نسيت، فمن أين لك هذا الطعام. فقال: تكهنت لقوم في الجاهلية فأعطونيه. فتقايأه من ساعته وقال: يا رب ما بقي في العروق فأنت حبسته فنزلت: {وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ}.
وقال الكلبي: نزلت في من هم بمعصية وقدر عليها في خلوة ثم تركها من خوف الله. ونحوه عن ابن عباس. يعني من خاف عند المعصية مقامه بين يدي الله، فانتهى عنها. والله أعلم.

.تفسير الآيات (42- 46):

{يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (43) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (44) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (46)}
قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها} قال ابن عباس: سأل مشركو مكة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متى تكون الساعة استهزاء، فأنزل الله عز وجل الآية.
وقال عروة بن الزبير في قوله تعالى: {فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها} لم يزل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسأل عن الساعة، حتى نزلت هذه الآية {إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها}. ومعنى {مُرْساها} أي قيامها. قال الفراء: رسوها قيامها كرسو السفينة.
وقال أبو عبيدة: أي منتهاها، ومرسي السفينة حيث، تنتهي. وهو قول ابن عباس. الربيع بن أنس: متى زمانها. والمعنى متقارب. وقد مضى في الأعراف بيان ذلك. وعن الحسن أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لا تقوم الساعة إلا بغضبه يغضبها ربك». {فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها} أي في أي شيء أن يا محمد من ذكر القيامة والسؤال عنها؟ وليس لك السؤال عنها. وهذا معنى ما رواه الزهري عن عروة بن الزبير قال: لم يزل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسأل عن الساعة حتى نزلت: {فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها} أي منتهى علمها، فكأنه عليه السلام لما أكثروا عليه سأل الله أن يعرفه ذلك، فقيل له: لا تسأل، فلست في شيء من ذلك. ويجوز أن يكون إنكارا على المشركين في مسألتهم له، أي فيم أنت من ذلك حتى يسألوك بيانه، ولست ممن يعلمه. روي معناه عن ابن عباس. والذكرى بمعنى الذكر. {إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها} أي منتهى علمها، فلا يوجد عند غيره علم الساعة، وهو كقوله تعالى: {قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي} [الأعراف: 187] وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان: 34]. {إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها} أي مخوف، وخص الإنذار بمن يخشى، لأنهم المنتفعون به، وإن كان منذرا لكل مكلف، وهو كقوله تعالى: {إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ} [يس: 11]. وقراءة العامة مُنْذِرُ بالإضافة غير منون، طلب التخفيف، وإلا فأصله التنوين، لأنه للمستقبل وإنما لا ينون في الماضي. قال الفراء: يجوز التنوين وتركه، كقوله تعالى: {بالِغُ أَمْرِهِ} [الطلاق: 3]، و{بالِغٌ أَمْرَهُ} و{مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ} [الأنفال: 18] {ومُوهِنٌ كَيْدَ الْكافِرِينَ} والتنوين هو الأصل، وبه قرأ أبو جعفر وشيبة والأعرج وابن محيصن وحميد وعياش عن أبي عمرو {منذر} منونا، وتكون في موضع نصب، والمعنى نصب، إنما ينتفع بإنذارك من يخشى الساعة.
وقال أبو علي: يجوز أن تكون الإضافة للماضي، نحو ضارب زيد أمس، لأنه قد فعل الإنذار، الآية رد على من قال: أحوال الآخرة غير محسوسة، وإنما هي راحة الروح أو تألمها من غير حس. كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها يعني الكفار يرون الساعة لَمْ يَلْبَثُوا أي في دنياهم، إِلَّا عَشِيَّةً أي قدر عشية أَوْ ضُحاها أي أو قدر الضحا الذي يلي تلك العشية، والمراد تقليل مدة الدنيا، كما قال تعالى: {لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ} [الأحقاف: 35].
وروى الضحاك عن ابن عباس: كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا يوما واحدا.
وقيل: لَمْ يَلْبَثُوا في قبورهم إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها، وذلك أنهم استقصروا مدة لبثهم في القبور لما عاينوا من الهول.
وقال الفراء: يقول القائل: وهل للعشية ضحا؟ وإنما الضحا لصدر النهار، ولكن أضيف الضحا إلى العشية، وهو اليوم الذي يكون فيه على عادة العرب، يقولون: آتيك الغداة أو عشيتها، وآتيك العشية أو غداتها، فتكون العشية في معنى آخر النهار، والغداة في معنى أول النهار، قال: وأنشدني بعض بني عقيل:
نحن صبحنا عامرا في دارها ** جردا تعادي طرفي نهارها

عشية الهلال أو سرارها

أراد: عشية الهلال، أو سرار العشية، فهو أشد من آتيك الغداة أو عشيها.

.سورة عبس:

سورة عبس مكية في قول الجميع وهي إحدى وأربعون آية.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

.تفسير الآيات (1- 4):

{عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (2) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (4)}
فيه ست مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {عَبَسَ} أي كلح بوجهه، يقال: عبس وبسر. وقد تقدم. {وَتَوَلَّى} أي أعرض بوجهه {أَنْ جاءَهُ} {أَنْ} في موضع نصب لأنه مفعول له، المعنى لان جاءه الأعمى، أي الذي لا يبصر بعينيه. فروى أهل التفسير أجمع أن قوما من أشراف قريش كانوا عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد طمع في إسلامهم، فأقبل عبد الله بن أم مكتوم، فكره رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقطع عبد الله عليه كلامه، فأعرض عنه، ففيه نزلت هذه الآية. قال مالك: إن هشام بن عروة حدثه عن عروة، أنه قال: نزلت {عَبَسَ وَتَوَلَّى} في ابن أم مكتوم، جاء إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجعل يقول: يا محمد استدنني، وعند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجل من عظماء المشركين، فجعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعرض عنه ويقبل على الآخر، ويقول: «يا فلان، هل ترى بما أقول بأسا؟ فيقول: لا والدمى ما أرى بما تقول بأسا»، فأنزل الله: {عَبَسَ وَتَوَلَّى}.
وفي الترمذي مسندا قال: حدثنا سعيد ابن يحيى بن سعيد الأموي، حدثني أبي، قال هذا ما عرضنا على هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، قالت: نزلت {عَبَسَ وَتَوَلَّى} في ابن أم مكتوم الأعمى، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل، يقول: يا رسول الله أرشدني، وعند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجل من عظماء المشركين، فجعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعرض عنه، ويقبل على الآخر، ويقول: «أترى بما أقول بأسا» فيقول: لا، ففي هذا نزلت، قال: هذا حديث غريب.
الثانية: الآية عتاب من الله لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في إعراضه وتوليه عن عبد الله بن أم مكتوم. ويقال: عمرو بن أم مكتوم، واسم أم مكتوم عاتكة بنت عامر بن مخزوم، وعمرو هذا: هو ابن قيس بن زائدة بن الأصم، وهو ابن خال خديجة رضي الله عنها. وكان قد تشاغل عنه برجل من عظماء المشركين، يقال كان الوليد بن المغيرة. ابن العربي: قاله المالكية من علمائنا، وهو يكني أبا عبد شمس.
وقال قتادة: هو أمية بن خلص وعنه: أبي بن خلف.
وقال مجاهد: كانوا ثلاثة عتبة وشيبة أبنا ربيعة وأبي بن خلف.
وقال عطاء عتبة بن ربيعة. سفيان الثوري: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع عمه العباس. الزمخشري: كان عنده صناديد قريش: عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو جهل بن هشام، والعباس بن عبد المطلب، وأمية بن خلف، والوليد بن المغيرة يدعوهم إلى الإسلام، رجاء أن يسلم بإسلامهم غيرهم. قال ابن العربي: أما قول علمائنا إنه الوليد بن المغيرة فقد قال آخرون إنه أمية بن خلف والعباس وهذا كله باطل وجهل من المفسرين الذين لم يتحققوا الدين، ذلك أن أمية بن خلف والوليد كانا بمكة وابن أم مكتوم كان بالمدينة، ما حضر معهما ولا حضرا معه، وكان موتهما كافرين، أحدهما قبل الهجرة، والآخر ببدر، ولم يقصد قط أمية المدينة، ولا حضر عنده مفردا، ولا مع أحد.
الثالثة: أقبل ابن أم مكتوم والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مشتغل بمن حضره من وجوه قريش يدعوهم إلى الله تعالى، وقد قوي طمعه في إسلامهم وكان في إسلامهم إسلام من وراءهم من قومهم، فجاء ابن أم مكتوم وهو أعمى فقال: يا رسول الله علمني مما علمك الله، وجعل يناديه ويكثر النداء، ولا يدري أنه مشتغل بغيره، حتى ظهرت الكراهة في وجه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقطعه كلامه، وقال في نفسه: يقول هؤلاء: إنما أتباعه العميان والسفلة والعبيد، فعبس وأعرض عنه، فنزلت الآية. قال الثوري: فكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد ذلك إذا رأى ابن أم مكتوم يبسط له رداءه وبقول: «مرحبا بمن عاتبني فيه ربي. ويقول: هل من حاجه؟» وأستخلفه على المدينة مرتين في غزوتين غزاهما. قال أنس: فرأيته يوم القادسية راكبا وعليه درع ومعه راية سوداء.
الرابعة: قال علماؤنا: ما فعله ابن أم مكتوم كان من سوء الأدب لو كان عالما بأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مشغول بغيره، وأنه يرجو إسلامهم، ولكن الله تبارك وتعالى عاتبه حتى لا تنكسر قلوب أهل الصفة، أو ليعلم أن المؤمن الفقير خير من الغني، وكان النظر إلى المؤمن أولى وإن كان فقيرا أصلح وأولى من الامر الآخر، وهو الإقبال على الأغنياء طمعا في إيمانهم، وإن كان ذلك أيضا نوعا من المصلحة، وعلى هذا يخرج قوله تعالى: {ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى} [الأنفال: 67] الآية على ما تقدم.
وقيل: إنما قصد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تأليف الرجل، ثقة بما كان في قلب ابن أم مكتوم من الايمان، كما قال: «إني لأصل الرجل وغيره أحب إلي منه، مخافة أن يكبه الله في النار على وجهه».
الخامسة: قال ابن زيد: إنما عبس النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لابن أم مكتوم وأعرض عنه، لأنه أشار إلى الذي كان يقوده أن يكفه، فدفعه ابن أم مكتوم، وأبى إلا أن يكلم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى يعلمه، فكان في هذا نوع جفاء منه. ومع هذا أنزل الله في حقه على نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَبَسَ وَتَوَلَّى بلفظ الاخبار عن الغائب، تعظيما له ولم يقل: عبست وتوليت. ثم أقبل عليه بمواجهة الخطاب تأنيسا له فقال: {وَما يُدْرِيكَ} أي يعلمك لَعَلَّهُ يعني ابن أم مكتوم يَزَّكَّى بما أستدعى منك تعليمه إياه من القرآن والدين، بأن يزداد طهارة في دينه، وزوال ظلمة الجهل عنه.
وقيل: الضمير في لَعَلَّهُ للكافر يعني إنك إذا طمعت في أن يتزكى بالإسلام أو يذكر، فتقربه الذكرى إلى قبول الحق وما يدريك أن ما طمعت فيه كائن. وقرأ الحسن {آأن جاءه الأعمى} بالمد على الاستفهام ف- أَنْ متعلقة بفعل محذوف دل عليه عَبَسَ وَتَوَلَّى التقدير: آأن جاءه أعرض عنه وتولى؟ فيوقف على هذه القراءة على وَتَوَلَّى، ولا يوقف عليه على قراءة الخبر، وهي قراءة العامة.
السادسة: نظير هذه الآية في العتاب قوله تعالى في سورة الأنعام: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ} [الأنعام: 52] وكذلك قوله في سورة الكهف: {وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا} [الكهف: 28] وما كان مثله، والله أعلم. {أَوْ يَذَّكَّرُ} يتعظ بما تقول: {فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى} أي العظة. وقراءة العامة: {فتنفعه} بضم العين، عطفا على {يَزَّكَّى}. وقرأ عاصم وابن أبي إسحاق وعيسى فَتَنْفَعَهُ نصبا. وهي قراءة السلمي وزر بن حبيش، على جواب لعل، لأنه غير موجب، كقوله تعالى: {لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ} [غافر: 36] ثم قال: {فَاطَّلَعَ} [الصافات: 55].